كلمة في التجرد من الهوى عند الحكم على الأمور

التربية


                      بسم الله الرحمن الرحيم

      يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: وإذا تأمل العاقل الفطن هذا القدر وتدبره رأى أكثر الناس يقبل المذهب والمقالة بلفظ ويردها بعينها بلفظ آخر، أكثر الناس قد يقبل مقالة ونفس المقالة يردها بلفظ آخر، يقول ابن القيم: وقد رأيت أنا من هذا في كتب الناس ما شاء الله، يعني ابن القيم يقول: هذا أمر منتشر، وقد رد من الحق بتشنيعه بلباس من اللفظ قبيح، يعني تضع على الحق لفظًا قبيحًا تنفر منه وتنفر به الناس..

سيذكر مثالاً يقول: وفي مثل هذا قال أئمة السنة: منهم الإمام أحمد وغيره: لا نزيل عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعة شنعت، يقولون من أثبت الصفات فهو مشبه، من أثبت الصفات فهو مجسم، ونحو ذلك، الإمام أحمد  يقول: لأجل شناعة شنعت فهؤلاء الجهمية يسمون إثبات صفات الكمال لله من حياته وعلمه وكلامه وسمعه وبصره وسائر ما وصف به نفسه تشبيهًا وتجسيمًا ومن أثبت ذلك مشبهًا.. هذا كان في القديم موجودًا ولا يزال..

يقول الشيخ: فلا ينفر من هذا المعنى الحق لأجل هذه التسمية الباطلة إلا العقول الصغيرة القاصرة، الذي يغتر بهذه الألقاب الشنيعة وينفر من أهل السنة بسببها إنما هم صغار العقول..

ثم يقول: خفافيش البصائر، مثل الخفاش الذي لا يرى بالنهار، خفافيش البصائر، إذًا هذه قاعدة الإمام أحمد وضعها لنا، أننا لا نغتر بالألقاب القبيحة في النظر للحق وفي الصد عن الحق، وهذا الأمر نبه عليه الحافظ ابن حجر في كلامه في فتح الباري وذكر أن ديدن أهل البدع تلقيب أهل السنة بالألقاب الشنيعة القبيحة للتنفير منهم كأن يقولوا كما قلت حشوية ونابتة، حشوية يعني حشو الوجود لا فائدة منهم، ونوابت، يعني ليس لهم أساس، ومشبهة ومعطلة، إلى غير ذلك..

في العصر القريب كانت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب دعوة التوحيد يقولون وهابية، فيقولون احذر هذا وهابي، وهابية أصحاب المذهب الخامس، مع أن الإمام محمد بن عبد الوهاب معروف وأنه في أصوله ينتمي للحنابلة ولكنه مجتهد كغيره يرجح المسائل بما بدا له فيه الدليل، لكنه في الأصل حنبلي، فيقولون هذا المذهب الخامس وهابية..

وعشنا في بلادنا هذه فترة على هذا، يقولون هذا وهابي واحذروا هؤلاء وهابية وجاءوا بالوهابية من الحجاز، إلى آخره..

والآن يطلقون على أهل السنة الذين يمنعون الخروج على الحكام ويمنعون الاعتصامات والمظاهرات وغيرها يقولون هؤلاء مداخلة أو جامية، في المملكة يطلقون هذه الكلمة جامية، وفي مصر تساوي مدخلية، لماذا؟ أحد المشايخ الكبار وهو الشيخ صالح العبود وكان في يوم من الأيام رئيس قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية في المدينة ومديرًا للجامعة عندما سئل هذا السؤال عن الجامية يقول: أنا أشتهي من أحد أن يعرفني معنى الجامية؟ إذًا كنت تقصدون نسبة هذا للشيخ العلامة محمد أمان رحمه الله تعالى وأنه يمنع الخروج على الحكام ويلزم المسلمين بالسمع والطاعة للحاكم في غير معصية وغير ذلك فكلنا يقول بهذا، هذا كلام الشيخ صالح العبود، فنحن على هذا، فكلنا على هذا جامية، وإن كان هناك معنى آخر فأخبروني ما هو، ونفس الشيء يقال للذين يسمون أهل السنة في مصر مداخلة أو مدخلية ماذا تقصدون بهذا، يعني أحيانًا يأتيني رجل عامي جدًّا، سمكري، يقول أنا أسمع أنهم يقولون عن فلان وفلان أنهم مداخلة ما معنى هذا، اسأل هؤلاء..

فهذه الألقاب الشنيعة يطلقونها لينفروا الناس عن الحق، فطالب العلم ينبغي أن يكون يقظًا ذا بصيرة، لا يقف مع هذه الألفاظ بل يقف مع العبارات والمسائل يبحثها بنظر ثاقب وبصيرة نافذة ولا يلتفت لشناعة شنعت، لأن الحق تليد وباقٍ، الحق تليد وباق، أنت ستزول ونحن سنزول ويبقى الحق عاليًا خفاقًا باقيًا في هذه الأرض كما أراده الله سبحانه وتعالى، سيزول فلان وفلان وتبقى الشريعة منتصرة ولا يزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق قائمين به، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم..

فالإمام أحمد في الحقيقة أتحفنا بهذه القاعدة العظيمة أننا لا نترك الحق لأجل شناعة شنعت بل ينبغي أن ننظر في المسألة نفسها وفي الحق نفسه وأن نبحث في الأصل ولا نغتر بالهوامش وبالحواشي..

يقول ابن القيم: وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، كل أهل نحلة يزينون كلامهم، ثم يقول: ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، يعني يقبح مقالة مخالفيهم ويأتي لها بألفاظ شنيعة بشعة يستبشعها السامع..

ثم يقول: ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، الذي عنده بصيرة يكشف حقيقة ما تحت هذه الألفاظ، يقول له ماذا تريد بقوله مشبهة، ماذا تريد بقولك مجسمة، هل تريد بذلك أنهم يثبتون الصفات، نحن نثبت الصفات، ماذا تريد بقولك وهابي هل تريد أنه يلتزم بالسنة ويدعو إلى التوحيد، إذًا فكلنا على هذا وهابيون..

إن كان حب آل محمد رفضًا       فليشهد الثقلان أني رافضي

هذا كلام الشافعي رحمه الله تعالى..

إن كان اتباع سنة أحمد توهبًا                   فليشهد الثقلان أني وهابي

إن كان اتباع السنة - متبع السنة - يطلق عليه وهابي فنحن كلنا كذلك، وقس على ذلك..

يقول ابن القيم: فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى، يقول الشاعر:

تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

النحل يخرج من بطنه العسل فإن شئت أن تمدحه تقول هذا جنى النحل، شيء طيب جميل، وإن شئت أن تذمه تقول هذا زنبور، الذي نسميه نحن الدنان، هذا قيء الزنابير، القيء هو الترجيع..

مدحًا وذمًّا وما جاوزت وصفهما    والحق قد يعتريه سوء تعبير

إذًا الشيء الواحد قد تطلق عليه عبارة تمدحه بها ونفس هذا الشيء تعبر عنه بعبارة تنفر عنه بها..

مدحًا وذمًّا وما جاوزت وصفهما    والحق قد يعتريه سوء تعبير

يقول ابن القيم: فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى، حقيقة المعنى، هل هو حق أو باطل، فجرده من لباس العبارة، هذا أول شيء، جرده من هذه العبارات، وجرد قلبك عن النفرة والميل، يعني أنت تحب فلان أو تبغض فلان لا تجعل هذا يؤثر عليك في فهم كلامه، سواءً كان موافقًا أم مخالفًا..

ثم يقول: ثم اعط النظر حقه ناظرًا بعين الإنصاف، أعط النظر حقهن يعني تأمل في هذا الكلام، أعط نفسك فرصة تتأمل في هذا الكلام، بعض الناس لا يعطي نفسه فرصة، بعض الناس يخاف أن يطلع على الحق، يخاف أن يطلع على الحق، لأن الحق له رهبة وله قوة ويأخذ بلباب العقول، فبعض الناس تقول له اقرأ هذا الكلام يقول لا، لا أستطيع، لا أحتاج، لأنه ضعيف، يخاف أن  يقرأه فيلجمه الحق إلجامًا، فيتبع الحق، فإذا اتبع الحق طارده أهل حزبه وأهل جماعته وقالوا كيف تترك ما كنت عليه ويطاردونه إلى أن يردوه إلى ما كان عليه، فهو مغيب، مغيب العقل لا يستطيع أن يتأمل في الحق، لا، ينبغي أن يجرد نفسه من الهوى ويجرد عقله من الهوى وقلبه من التعصب ثم ينظر للحق بعين الإنصاف..

يقول ابن القيم: ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرًا تامًا بكل قلبه، يعني إذا نظر في مقالة أصحابه وجماعته يحسن النظر فيها ويحسن الظن بهم، ثم ينظر في مقالة خصومه ومن يسيء ظنه به كنظر الشجر والملاحظة، ينظر لمقالة خصمه نظرة ليس فيها تعقل وتوقف وتأمل، لا، نظرة شذر وملاحظة، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، يعني يرى المساوئ محاسن.. وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق، هذا هو الإنصاف الذي لا بد أن نتحلى به ونحتاج إليه..

بقية كلام ابن القيم: وقد قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساوئا

وقال آخر:

نظروا بعين عداوة لو أنها   عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا

ثم يختم هذا المبحث بقوله: فإذا كان هذا في نظر العين الذي يدرك المحسوسات، يعني إذا كان هذا في نظر العين الذي تدرك به المحسوسات يحصل هذا الخداع لها ولا يتمكن من المكابرة فيها، لا يتمكن من المكابرة، يعني يأتي إنسان يدلس عليك في شيء أمامك، تقول له لا، انظر، تعال، ائت بشهود، يقول لك الشمس غير طالعة، تقول له هذا نظر مكابرة تستطيع أن تأتي له بشواهد، لكن هناك أشياء خفية باطنة يصعب أن تأتي له فيها بشواهد..

يقول ابن القيم: فما الظن بنظر القلب الذي يدرك المعاني التي هي عرضة للمكابرة، أشياء معنوية تجادل صاحبك فيها ويخالفك فيها، فكيف السبيل إلى الوصول إلى الحق والصواب..

يقول ابن القيم: والله المستعان على معرفة الحق وقبوله ورد الباطل وعدم الاغترار به.."

ملحوظة هذه الكلمة مستلة من شرح الشيخ على كتاب الايمان من صحيح البخاري