الخوف والرجاء

الزهد و الرقائق


               بسم الله الرحمن الرحيم

قال الطحاوي رحمه الله تعالى: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام)

الأمن هو عدم الخوف، الأمن من مكر الله جل وعلا، الإنسان لا يخاف، يأمن على نفسه من مكر الله سبحانه وتعالى فيترك عبادة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وسنعرف الآن كيف ذلك..

والإياس: هو القنوط واليأس، وهل اليأس أشد من القنوط أم القنوط أشد، على قولين لأهل العلم والذي رجحه شارح كتاب التوحيد الشيخ سليمان بن عبد الله أن اليأس أشد من القنوط لما سيأتي..

والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، كلمة ينقلان عن ملة الإسلام هذه كلمة لا بد أن تنتبه لها وماذا يقصد بها الماتن، ينقلان، نقول هذا بحسبه، إذا انعدم الخوف تمامًا من قلب الشخص وانعدم كذلك الرجاء فهذا حكمه الردة والكفر أما إذا كان الإنسان في قلبه أصل الخوف من الله وأصل الرجاء فهذا حكمه حكم أصحاب الكبائر، فكلمة ينقلان هنا عن ملة الإسلام تنتبه لها، يقصد الشيخ إذا انعدما، إذا انعدم الخوف وانعدم الرجاء، وأصبح الأمن من مكر الله هو الذي في القلب، حل محل الخوف، وكذلك انعدم الرجاء، وأصبح القنوط والإياس هو الذي في القلب..

دليل ذلك قوله تعالى في سورة يوسف في قصة يعقوب مع ابنه يوسف عليه السلام (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) القوم الكافرون هم الذين يئسوا من روح الله جل وعلا فالكافر هو الذي ليس عنده رجاء في الله جل وعلا والكافر هو الذي لا يخاف الله جل وعلا البتة..

وكذلك قوله تعالى عندما جاءت الملائكة تبشر إبراهيم عليه السلام فقالوا (لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) فهذا بالنسبة للحكم، متى يكون ترك الخوف وترك الرجاء كفرًا وردة ومتى لا يكون ذلك، أما إذا كان الإنسان عنده أصل الخوف وعنده أصل الرجاء لكنه يسرف في ذلك كما سنوضحه فإن هذا لا يخرجه من الإسلام..

وقد جاء عند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس مرفوعًا: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: "الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله" لكن هذا الحديث ابن كثير قال فيه نظر والأظهر أنه موقوف، ويؤيده أيضًا ما رواه عبد الرزاق في مصنفه من حديث ابن مسعود أنه قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله" صححه ابن كثير رحمه الله تعالى..

هذا هو التفصيل في هذه المسألة ومتى يخرج الإنسان من الملة ومتى يبقى مع ارتكابه كبيرة من الكبائر..

المؤلف هنا يريد أن ينبه على خطورة هاتين العبادتين وأهمية الخوف والرجاء..

سبق في المبحث السابق الذي مر بنا الكلام على الرجاء، عبادة الرجاء، والآن المؤلف سيتكلم عليهما معًا وسيخص الكلام على مبحث الخوف، الخوف من الله سبحانه وتعالى، وسبق أن ذكرنا ما ذكره البخاري عن الحسن أنه قال: لا يخافه إلا مؤمن ولا يأمنه إلا منافق، وقلنا بأن الضمير هنا إما أن يعود إلى النفاق أو أن الضمير يعود على الله جل وعلا، لا يخافه إلا مؤمن ولا يأمنه إلا منافق، والخوف عبادة من العبادات تتعبد بها الملائكة، قال تعالى عن الملائكة (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) وهي أيضًا عبادة للأنبياء، كما قال تعالى (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين) فإذا كانت هذه عبادة يتعبد بها الملائكة الخوف من الله جل وعلا ويتعبد بها الأنبياء، وكذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي شرحناه في عدة دروس "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" وذكرنا هذا في شرح البخاري في ستة دروس..

وسيأتي الكلام إن شاء الله جل وعلا في آخر هذا المبحث إن شاء الله إذا بقي وقت عن صور من خوف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم..

إذًا في هذا المبحث التحذير من الأمن من مكر الله جل وعلا، وربنا جل وعلا قال (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون. أَوأَمِن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) يعني الهالكون..

سبب ذلك الجهل بالله جل وعلا والاغترار بأمره، يعني ما سبب هذه المعضلة أو المشكلة، مالذي يوقع الإنسان في الأمن من مكر الله؟ يكون آمن على نفسه؟ سبب ذلك أمور منها: الجهل بالله سبحانه وتعالى والاغترار بالله جل وعلا وبإمهال الله جل وعلا له أو الشخص أو للقرى.. ثالثًا: العجب والكبر، سبب ذلك العجب والكبر، الإنسان يعجب بعمله ويتكبر..

قال الشيخ سليمان بن عبد الله وهو شارح  كتاب التوحيد: فدل على وجوب الخوف من مكر الله، دل على وجوب الخوف من  مكر الله جل وعلا، وقال الحسن البصري: من وُسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي به، يعني العبد إذا كان على معصية والله جل وعلا يعطيه ولم ينتبه فاعلم أن هذا استدراج..

قال قتادة: بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم، يعني أعطاهم النعم على معاصيهم وتمادوا في معاصيهم ويعطيهم الله جل وعلا ويمدهم في طغيانهم إلى أن يأخذهم بغتة، يقول قتادة: فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر به إلا  القوم الفاسقون..

وفي مسند أحمد من حديث عقبة بن عامر: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج" إذا رأيت الله جل وعلا يعطي العبد من الدنيا ما يحب على معاصيه فاعلم أنما هو استدراج، هذه قاعدة مهمة ..

ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج

 يقسم الخوف إلى قسمين: خوف العاصي وخوف المطيع، خوف العاصي يكون من علمه بالوعيد، الوعد والوعيد، يأتي المعاصي ويأتي السيئات ويعلم أن الله جل وعلا شديد العقاب وأن الله جل وعلا أعد العذاب والجحيم والوبال والنكال لمن عصاه وخالف أمره، أما المطيع فإنه يخاف لعلمه بقدرة الله جل وعلا وعلمه بعظمته سبحانه وتعالى ويخاف من مكره تعالى،  ويخاف لأنه يعلم أن الله جل وعلا يقلب القلوب والقلوب بيده سبحانه وتعالى، فالمطيع قائم على طاعة الله سبحانه وتعالى، لكنه يخاف من مكر الله سبحانه وتعالى، يخاف ألا يثبت قلبه على الإيمان والإسلام حتى يلقى الله سبحانه وتعالى، دائمًا يسأل ربه جل وعلا أن يثبت قلبه..

وسيأتينا إن شاء الله سبحانه وتعالى صور من خوف الصحابة مع صدقهم وجهادهم وإخلاصهم قد كانوا يخافون أشد الخوف، مع حسن بلائهم وحسن عملهم واجتهادهم، فهذا خوف المطيع، خوف المتقي..

هذه مقدمة ونرجع إلى كلام الشارح، يقول الشارح: يجب أن يكون العبد خائفًا راجيًا، يعني يكون بين هاتين العبادتين، فإن الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، الخوف الصحيح الذي يحجز الإنسان عن المعاصي والوقوع فيما حرم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، إذا زاد الخوف عن حده أورث اليأس والقنوط، ومنع العمل، يعني إنسان اشتد به الخوف من النار ومن عذاب النار، حتى قال إنه لن ينجو، ولا فائدة من العمل ولا فائدة من الطاعة، فترك الطاعة وترك العمل وترك الفرائض وترك الواجبات والمستحبات، هذا وقع في اليأس والقنوط، زاد الخوف عن حده، لا بد أن يكون المؤمن بين الخوف وبين الرجاء، يخاف ويرجو، يخاف فيجتهد ويعمل، وبعد أن يعمل يرجو الله جل وعلا ويرجو قبول عمله، وهكذا دائمًا يعيش بين جناحي الخوف والرجاء، كما سيأتي..

ثم قال: والرجاء المحمود رجاء رجلٍ عمل بطاعة الله، من هنا ينقل المؤلف مباشرةً من كلام ابن القيم من مدارج السالكين (2/27) في منزلة الرجاء حيث قسم ابن القيم الرجاء إلى ثلاثة أنواع: نوعان محمودان ونوع مذموم، نوعان محمودان للرجاء ونوع مذموم، النوع الأول من الرجاء المحمود رجاء المطيع، شخص يحسن في عمله ويعبد الله جل وعلا ويجتهد في ذلك ويأتي بالحسنات، ويرجو ثواب الله سبحانه وتعالى..

النوع الثاني من الرجاء المحمود: رجاء العاصي الذي يعصي ويتوب ويستغفر ويرجو المغفرة، يعصي الله جل وعلا ثم يتوب أو يستغفر ويرجو المغفرة..

النوع الثالث وهو الرجاء المذموم: رجاء الشخص المتمني المغرور، الذي يرجو ما عند الله سبحانه وتعالى ويرجو الدرجات العلى من الجنة ولا يعمل شيئًا ويسرف على نفسه، وهذه هي الأماني، وذكرنا لكم فصلاً من كلام ابن القيم في الفرق بين الرجاء والغرور والأماني..

يقول الشيخ هنا فيما نقله: الرجاء المحمود رجاء رجلٍ عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راجٍ لثوابه، وهذا عرفناه..

النوع الثاني: أو رجاء رجل أذنب ذنبًا ثم تاب منه إلى الله فهو راجٍ لمغفرته، انتهى النقل هنا من المدارج..

ثم أتى بالآية التي سبق الكلام عليها، قال تعالى (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) إذًا هم آمنوا وهاجروا وجاهدوا، ومع كل هذه الأعمال من الطاعات يرجون رحمة الله، لن يجلسوا بلا عمل وبلا إيمان وبلا جهاد وبلا هجرة وقالوا نحن نرجو رحمة الله، هذا رجاء المتمنين المغرورين، وكما قلنا: الأماني رأس مال المفاليس، الأماني رأس أموال المفاليس، يتمنى أن يكون عنده أرض يزرعها أو أرض تخرج حصادًا كبيرًا يقوم ببيعه ثم يشتري فيلا وسيارة ويتزوج ويكون عنده أولاد، إلى آخره ويحج ويعتمر، وهو لم يضع في تلك الأرض بذرة واحدة، هذه الأماني، وكما قال تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) ما هي القاعدة؟ (من يعمل سوءًا يجز به) هذا خطاب للمسلمين (ليس بأمانيكم) لن تدخلوا الجنة بالأماني (ولا أماني أهل الكتاب)..

ثم ذكر النوع الثالث: أما إذا كان الرجل متماديًا في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب..

قال ابن القيم كما في كتاب الروح: إن الرجاء الصحيح يكون مع بذل الجهد، انتبه الآن، إن الرجاء الصحيح يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز، يجتهد الإنسان ليصل إلى أعلى ما يحب، بالاجتهاد واستفراغ الوسع والطاقة..

ثم قال: والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه، كما قلت يحدث نفسه بأنه سيكون أعلم الناس وسيكون أفقه الناس ولا يفتح كتابًا ولا يحفظ متنًا ولا يحفظ آية من كتاب الله ويقول أنا سأكون أعلم هذه البلدة، كما قلت يحدث نفسه بالغنى والثراء ولا يلقي في الأرض حبة واحدة، والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه..

ثم نقل أيضًا من المدارج: قال أبو علي الروذباري، وهو محمد بن أحمد بن القاسم المتوفى في سنة ثلاثمائة وثنتين وعشرين قال رحمه الله تعالى: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا، يعني ينبغي أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء، وينبغي أن يكون الخوف والرجاء للشخص كالجناحين للطائر..

سيفصل الآن، إذا استويا استوى الطير، إذا استويا الخوف والرجاء استوى الطير، كان طيره صحيحًا مستقيمًا متكاملاً وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، إذا اختل أحد الجناحين اختل سير الطائر، وهكذا إذا اختل الخوف عند الشخص حصل عليه الخلل في دينه وإيمانه وعقيدته، وإذا اختل الرجاء حصل عليه كذلك الخلل..

كما قلت قبل قليل إذا خلف عليه الخوف واشتد عليه قد يوصله إلى القنوط واليأس وبالتالي ترك العبادات، والعكس بالعكس، إذا غلب عليه الرجاء فقد يوصله إلى ترك العمل بحجة أنه يطمع في فضل الله جل وعلا وفي كرمه، وهو مذهب المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب..

ثم قال: وإذا ذهبا، ذهب الخوف والرجاء، صار الطائر في حد الموت، سقط، إذا ذهبا، ألف التثنية، ذهب الخوف وذهب الرجاء، في حد الموت، وأعظم من ذلك زادوا في هذا المثال يجعل المحبة تحدوه كالرأس للطائر، فإذا قطعت الرأس سقط الطائر ومات وهلك، فالمحبة مقدمة، وهي في المقدمة، المحبة هي الرأس، محبة الله جل وعلا، والجناحان هما الخوف والرجاء.. انتهى هنا كما قلت النقل من المدارج..

ثم قال: وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله (أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) يعني هل يستوي هذا مع الكافر أو مع المشرك أو مع المسرف على نفسه، هل يستوي مع من هو قانت، القنوت دوام الطاعة ودوام العبادة، آناء الليل، وقال أهل العلم هنا آناء الليل آخر الليل، ساجدًا وقائمًا، يعني يصلي ويعبد الله جل وعلا (يحذر الآخرة) هذا هو الخوف، ويرجو رحمة ربه، هذا هو الرجاء، مدح أهل هاتين العبادتين..

وقال تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) وهذا رد عن ما حكي عن رابعة العدوية أنها كانت تقول: اللهم إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فلا تدخلنيها وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فأدخلنيها، هذه طريقة مخالفة لطريقة أولياء الله جل وعلا من الأنبياء والمرسلين والصديقين، بل من طريقة الملائكة (يخافون ربهم من فوقهم)..

ثم قال: فالرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمنًا، وهذه شرحناها من قبل، كل راجٍ خائف وكل خائف راجٍ، فالراجي ما عند الله يخاف ألا يدرك ما يرجوه فيعمل ويجتهد ولا يتكاسل، فالرجاء يستلزم الخوف، رجا فعمل واجتهد وخاف ألا يقبل، وخاف ألا يصل، ولولا ذلك لكان أمنًا، لو ترك الخوف كما قلت واعتمد على كرم الله جل وعلا ولطفه وسعة رحمته، خلاص، هذا أمن، ترك العمل وترك الالتزام بالأوامر والنواهي، والبعد عن النواهي..

ثم  قال: والخوف يستلزم الرجاء، نحن قلنا كل خائف راجي لأن الخوف يدفعه للعمل الذي يرجو به ما عند الله سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لكان قنوطًا ويأسًا، على ما شرحناه قبل قليل..

قال: وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله سبحانه وتعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه، كما قال تعالى (ففروا إلى الله) (أن لا ملجأ من الله إلا إليه) (ففروا إلى الله).. تفر إليه، بالعمل بما يرضيه والاعتصام بحبله سبحانه وتعالى..

ثم سيعلق الآن على كلمة للهروي صاحب منازل السائرين، وسنقرأ إن شاء الله من المدارج نفسه، بل من المنازل كلام الهروي ثم تعليق ابن القيم عليه من المدارج..

 

وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله : الرجاء أضعف منازل المريد . وفي كلامه نظر ، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي . فليظن [بي] ما شاء".

وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" ، ولهذا قيل : إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه ، بخلاف زمن الصحة ، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه . وقال بعضهم : من عبد الله بالحب [وحده] فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، [وروي] : ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد .

ولقد أحسن محمود الوراق في قوله :

لو قد رأيت الصغير من عمل الخـ   ير ثواباً عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل الشـ    ر جزاءً أشفقت من حذره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشرح:

ابن القيم في المدارج، أنا أقرأ الآن من المدارج مباشرة (2/28) قال تعليقًا على قول الهروي، قال ابن القيم: قال صاحب المنازل، يعني منازل السائرين، أبو إسماعيل الهروي: الرجاء أضعف منازل المريدين، لأنه، الهروي الآن سيعلل، لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه، الهروي يريد أن يقول، وهذا الكلام لابن القيم سأشرحه الآن، أن الذي يرجو معترض، معترض على القدر، وعنده اعتراض على ما قدره الله جل وعلا واختاره لهذا العبد.. يعني أنت مثلاً ترجو الله جل وعلا أن يبدلك شيئًا بشيء أو يعطيك ما ليس عندك، فيقول هذا اعتراض، المفترض أنك تستلم للقدر، ابن القيم سيرد عليه.. لكن أنا أشرح الآن فقط ماذا يريد الهروي أن يقول في هذه الكلمة، أنه معارضة من وجه واعتراض من وجه، يعني يريدك أن تستسلم للأمر القدري ولا تقوم بتغييره، وهذا مصادم للنصوص، عمر بن الخطاب عندما نزل الشام وكان الطاعون فيها وأراد أن يفر فلاموه قال: أفر من قدر الله إلى قدر الله.. وأنت أمرت بالدعاء، الدعاء يرد القضاء، فإذا كان الإنسان مطلوب منه أن يستسلم في كل شيء للأمر القدري خلاص سيترك الدعاء ويترك التماس معاني أسماء الله جل وعلا الحسنى، المحسن، المعطي، الفتاح، التواب، ونحو ذلك، ويستسلم ويترك كل شيء على ما هو عليه، ولا شك أن هذا فيه مناهضة للأوامر الشرعية بأن الإنسان يسعى إلى الخير وإلى الأحسن والأفضل ويطلب الأسباب الجالبة للسعادة في الدنيا والآخرة..

ثم قال الهروي: وهو وقوع في الرعونة، الرعونة يعني البحث عن حظ النفس، يقول هذا حظ نفسك، إذا أنت طلبت هذا فأنت تقف مع حظ نفسك، لا، اترك حظ النفس، في مذهب هذه الطائفة، يعني  يقصد الصوفية يتركون حظوظ النفس، مع أن الصوفية أكثر الناس في البحث عن حظ النفس..

ثم قال: وفائدة واحدة، يعني للرجاء، نطق بها التنزيل والسنة، مع أنه سيأتينا إن شاء الله تعالى في آخر هذا البحث إذا  الوقت بقي يذكر ابن القيم للرجاء فوائد كثيرة لعله زاد عن عشرة فوائد، يقول الهروي أن هناك فائدة واحدة للرجاء، تلك الفائدة هي أنه يبرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس، يعني يقول أن فائدة الرجاء أن الإنسان لا يقع في اليأس والقنوط..

ابن القيم يعلق على هذا الكلام  تعليقًا عظيمًا سارت به الركبان ونقله الأئمة والمصنفون في كتاباتهم، يعلق بعبارة في مقدمة نقده لهذا الكلام، يقول: شيخ الإسلام حبيب إلينا، شيخ الإسلام يعني الهروي، صاحب المنازل، شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، هذه الكلمة لا يكاد يوجد أحد إلا وقالها بعد ابن القيم من الذين كتبوا وصنفوا، شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قومه ومتروك، هذه كلمة الإمام مالك: ما منا إلا رادّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم..

ثم قال: ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبين ما فيه، ويبدأ ابن القيم يفسر ما يريده الهروي ويحاول أن يعتذر عنه..

وابن القيم في كلامه يعتبر أن هذه شطحة من الشطحات لهذا الرجل الكبير..

ثم قال في رد هذه الكلمة: وأما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين؛ فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها، الرجاء من أجل المنازل، منازل كما يقول هنا العارفين، أو المريدين، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله، كما قلنا المحبة في المقدمة، الحب والمحبة، محبة الله جل وعلا والخوف والرجاء جناحان، وعليه وعلى الرجاء، وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم، يعني مدح أهل الرجاء، قال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) يكفي هذه الآية في رد هذه الدعوة، ثم قال: وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني" هذا الرجاء "غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي" الله جل وعلا يدعو عبده للدعاء ولأن يرجوه سبحانه وتعالى، فكيف نقول أن هذا أضعف المنازل.. وذكر أدلة أخرى، ثم قال بعد كلام: وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فكل محبّ راجٍ خائفٍ بالضرورة، على حسب قوة محبته لله جل وعلا، كلما ازداد في محبته للرب جل وعلا ازداد في الرجاء وازداد في الخوف، على حسب محبته لربه زيادةً ونقصًا يزداد الرجاء أو ينقص..

يقول ابن القيم: وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء فكل محبٍّ راجٍ خائفٍ بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه، كلما زاد في المحبة زاد في الرجاء، وكذلك خوفه، يعني زاد أيضًا في الخوف..

ثم قال: فإنه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه عنه، يعني يخاف أن الله جل وعلا يطرده ويبعده ولا يحبه، واحتجابه عنه، فخوفه أشد الخوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة، فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له، يعني يرجوه في الدنيا ويرجوه عند لقائه..

ثم قال: فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة..

ثم قال: وبالجملة فالرجاء ضروري للمريد السالك، يعني السالك طريق الاستقامة، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله، كما قلنا هذه أنواع الرجاء المحمود، رجاء المطيع أو رجاء العاصي..

ثم قال في آخر كلامه: فكيف يكون الرجاء من أضعف منازله وهذا حاله، كما قلت يكفي فيه الآيتان اللتان ذكرهما..

ثم قال: والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه بل هو من أقوى الأسباب..

وقال: ولولا أن حق الحق، يعني حق الله جل وعلا، ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق لكان في الإمساك فسحة ومتسع، يعني يقول لولا أني أنتصر هنا لحق الله جل وعلا لكنت تركت الكلام في هذه المسألة ولم أعرج عليها، لأنها مسألة واضحة والنصوص واضحة، الآيات والأحاديث..

يقول ابن القيم معتذرًا في الأخير: ولولا أن حق الحق، يعني حق الله جل وعلا، أوجب من حق الخلق، لكان في الإمساك فسحة ومتسع..

ثم قال: فيالله العجب، يتعجب، أي رعونة في من يجعل رجاء العبد ربه وطمعه في بره وإحسانه وفضله، يعني هل هذا من حظ النفس، هل هذا من حظ النفس أن تطلب من الله جل وعلا، أن تطلب منه فضله وإحسانه وجوده وكرمه، هل هذا حظ النفس..

يقول: وأي رعونة في من يجعل رجاء العبد ربه وطمعه في بره وإحسانه وفضله وسؤاله ذلك بقلبه ولسانه، الله جل وعلا يحب الملحين في الدعاء، يحب إلحاح العبد..

الرب يغضب إن تركت سؤاله       وبني آدم حين يُسأل يغضب

الرب جل وعلا كما جاء في الحديث يغضب على العبد إن لم يسأله، لأن الدعاء هذا فيه تعبد بعبادات كثيرة وفيه إقرار بربوبية الله جل وعلا وإقرار بغناه وإقرار بسمعه وبصره وجوده وكرمه، فكيف يقال هذا حظ النفس..

ثم بعدما يذكر المؤلف ابن القيم رحمه الله تعالى الكلام على هذه المسألة الرعونة وكيف أن الأنبياء كانوا يدعون الله جل وعلا وقد جاء في الحديث "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك" هل يقال هذا حظ النفس، وذكر أحاديث في ذلك..

ثم قال: وأما قوله إنما نطق به التنزيل لفائدة، يعني الهروي ذكر فائدة واحدة للرجاء، فيقال: بل لفوائد كثيرة أخر، ابن القيم الآن سيذكر عدة فوائد للرجاء، الأولى من فوائد الرجاء، وهذا يصلح أن تجعلها مثلاً في درس أو في خطبة أو نحو ذلك، هذه عبادة عظيمة يغفل عنها الكثير من الناس، من فوائد الرجاء: أولاً: إظهار العبودية والفاقة، والحاجة إلى ما يرجوه من ربه، ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين، عندما تقول: يا رب أعطني، يا رب ارزقني، أنا مسكين أنا ضعيف أنا مريض أنا بي فاقة، وهكذا، هذا إظهار للعبودية بالنسبة لك، وكذلك فيها اعتراف لله جل وعلا، كما قلت بأنه الملك المالك المتصرف الذي بيده ملكوت كل شيء، إظهار للعبودية والفاقة، هذا أولاً..

الثاني: أنه سبحانه يحب من عباده أن يأملوه ويرجوه، يحب من عباده أن يأملوه، يطلبوا ما عنده ويرجوا ما عنده، يحب هذا، وذكر الحديث "من لم يسأل الله يغضب عليه" يقول: لماذا؟ لأنه الملك الحق الجواد، أجود من سئل وأوسع من أعطى، سبحانه وتعالى، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويُسأل، أحب ما إلى الجواد سبحانه أن يُرجى ويؤمل، تقول له أعطني، كل شيء بيدك وتلح عليه في ذلك، هو جل وعلا يحب ذلك من عبده..

أيضًا من فوائد الرجاء أن الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيب له المسير ويحثه عليه ويبعثه على ملازمته، فلولا الرجاء لما سار أحد، الرجاء حادٍ يحدو الشخص إلى ربه سبحانه وتعالى، فلولا الرجاء لما سار أحد، لو أن الإنسان انقطع عن الرجاء وترك الرجاء خلاص انقلب إلى اليأس والقنوط والعياذ بالله..

الفائدة التي بعد ذلك: أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة ويلقيه في دهاليزها فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبًّا لله تعالى وشكرًا، يعني أنت رجوت الله جل وعلا في مسألة أو مسائل وأعطاك ما ترجو ازددت حبًّا له، هذه عبادة أخرى، وازددت شكرًا له، وهذه عبادة أخرى..

منها أيضًا أنه يبعثه على أعلى المقامات وهو مقام الشكر الذي هو خلاصة العبودية فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره سبحانه وتعالى..

منها أيضًا أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلق بها، فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى متعبد بها داعٍ بها فلا ينبغي أن يعطل دعاءه بأسمائه الحسنى، كما قلت منها الفتاح ومنها الباسط والقابض، ومنها المعطي ومنها المحسن، وغير ذلك..

ثم ذكر أيضًا من الفوائد أن الخوف مستلزم للرجاء وأن المحبة لا تنفك عن الرجاء، إلى آخر ما ذكره المؤلف هنا، تستطيع أن تراجعه من ص38 إلى ص39..

هذا كان كلام الهروي في المنازل، وجواب ابن القيم الذي تلاحظون فيه الأدب الجم في مناقشته وفي تقديمه لما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة، وبيان أوجه أن الرجاء عبادة عظيمة وأنه ليس كما قال من أضعف منازل المريد والبحث كما قلت موسع وموجود في المدارج..

ثم قال الشارح: وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" كلمة الصحيح من قبل عند أهل العلم كلمة تحتمل عدة معانٍ: هل المراد في الصحيح يعني في البخاري أو مسلم أو في كليهما، هذا احتمال، أو المراد في الحديث الصحيح، هذا احتمال ثانٍ، هنا قول المؤلف وفي الصحيح: يريد في الحديث الصحيح، لأن هذا الحديث بهذا اللفظ ليس في البخاري ولا في مسلم وإنما هو في مسند أحمد، هذا لفظ أحمد من حديث واثلة، قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" أما الذي في البخاري برقم7405 وفي مسلم كذلك "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني" هناك فرق، وفي رواية "حيث ذكرني" وفي مسلم "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني" هذه ألفاظ في الصحيحين..

أما الذي معنا "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" هذا في المسند..

ثم قال: وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" سبحانه وتعالى..

ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه، يعني العلماء قالوا أيهما نغلب الخوف أو الرجاء، فبعض الناس غلب الرجاء، وبعض الناس غلب الخوف، وقول ثالث أنه في حال صحته وقوته وشبابه يغلب الخوف، طبعًا عندما نقول يغلب الخوف ليس الخوف الذي يصل به إلى اليأس والقنوط، لا، الخوف الذي يبعثه على المزيد من العمل والمزيد من الجد والاجتهاد والمزيد من الطاعات فإذا جاء وقت التعب والوهن والمرض وآخر العمر مع قلة الصحة والعافية وقلة النشاط يغلب جانب الرجاء وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، هذا هو التفصيل في هذه المسألة..

وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، يعني شخص ترك كل شيء، وقال أنا أعبد الله جل وعلا بالحب فقط، لا أعمل العبادات ولا أقوم بالفرائض ولا بالمستحبات ولا أنتهي عن المنهيات بل فقط أنا أحب الله جل وعلا أشد الحب، نقول له لو أحببت الله جل وعلا لصدعت لأمره ولانتهيت عن نهيه ولعملت بمحابه، فإن المحب لم يحب مطيع، هذه قاعدة معروفة (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وهذا الآن موجود وجدنا بعض الناس لا يأتون إلى الصلوات ولا إلى المساجد يقول خلاص نحن وصلنا في المحبة إلى درجة سقطت عنا التكاليف اذهبوا أنتم صلوا مع الناس في المساجد، أنتم ما زلتم في أول الطريق، أنتم عوام، أما النحن فقد وصلنا، فبهذا يتركون الشريعة، فهذه هي الزندقة المرادة هنا..

قال: ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، يعني الخوارج الذين يأخذون بأحاديث الوعيد والتخويف ولا يجمعون معها أحاديث الوعد والرجاء..

يقول: ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجي أو مرجئ، يأخذ بنصوص الوعد ويترك نصوص الوعيد..

ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد سني، أهل السنة يعبدون الله جل وعلا بالحب والخوف والرجاء، يجعلون الحب في المقدمة، يحدوهم، ويمشون ويسيرون في عبادتهم بين الخوف والرجاء..

ثم قال: ولقد أحسن محمود، يعني محمود بن حسن الوراق، توفي في تقريبًا سنة مئتين وثلاثين، في خلافة المعتصم، له شعر في المواعظ والحكم، وهذا الشعر ذكره ابن عبد البر في التمهيد وفي غير ذلك من كتبه، قال محمود الوراق:

لو قد رأيت الصغير من عمل الخير ثوابًا عجبت من كبره..

يعني لو رأيت ثواب العمل الصغير كيف نما هذا العمل الصغير وكيف نما أجره تعجب من كيف أن هذا العمل الصغير أعطيت عليه هذا الثواب العظيم..

مصداق ذلك ما جاء في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن" يعني تنمو وتزداد في كف الرحمن "حتى تكون أعظم من الجبل" تمرة، سبحان الله، الله جل وعلا بكرمه ومنه يربيها لك وينميها لك حتى تكون أعظم من الجبل "كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله" قد يكون عند الإنسان مُهر صغير يربيه ويكبره حتى يكون من أحسن الخيل، تمرة صغيرة تتصدق بها تأتي تجد ثوابها مثل الجبل..

هناك حديث ورد فيه ضعف رواه أبو داود "عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة" يعني الأذى "يخرجه الرجل من المسجد" هذا حديث ضعيف رواه ابن خزيمة في صحيحه وأبو داود، وهو حديث فيه ضعف، ويغني عنه كما قلت الآن الحديث الذي في صحيح مسلم.. ثم قال:

أو قد رأيت الحقير من عمل الشر جزاءً أشفقت من حذره

قد يعمل الإنسان عمل صغير من السيئات لكن هذا العمل الصغير مع الاستهانة به والاستخفاف يجده بعد ذلك يوم العرض كالجبل العظيم لأنه عندما قام بهذا العمل الصغير استخف بالله جل وعلا واستهان بنظر الله سبحانه وتعالى إليه..

هذا المبحث نختمه بنماذج ذكرها ابن القيم في كتابه الجواب الكافي أو الداء والدواء، لخوف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فنختم بها هذا المبحث إن شاء الله سبحانه وتعالى لأنه بعد ذلك سيكون هناك مبحث آخر مستقل وهو مبحث الإيمان..

قال ابن القيم: والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن، يعني هو مسيء وآمن، يقول لك نحن سندخل الجنة من أوسع الأبواب..

قال: ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جميعًا بين التقصير بل التفريط والأمن، فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يقول: وددت أني شعرة في جنب عبدٍ مؤمن، ذكره أحمد عنه، الصديق يتمنى أن يكون شعرة في جنب عبدٍ مؤمن..

وذكر عنه أيضًا، يعني أحمد، أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، يعني هذا اللسان خطير، كما يقولون بلهجتنا يذهب بالإنسان في مصيبة [أو في داهية] أوردني الموارد، وكان يبكي كثيرًا، أبو بكر الصديق، يبكي ويقول: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا.. وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله، عود، يعني لا يتحرك، إذا كان هذا حال صديق الأمة بهذا الخوف والوجل فكيف بمن بعده..

ثم قال: وأتي بطائر فقلبه ثم قال: ما صيد من صيد ولا قطعت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح، يعني هذا استنتاج من أبي بكر الصديق، يقول هذا الطائر سقط وذُبح بما ضيع من التسبيح، وكذلك قطعت هذه الشجرة بذلك..

وهذه قاعدة، ما أصابنا من مصيبة فبما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير..

ولما احتضر، جاءته السكرات، أو قبيل ذلك، قال لعائشة: يا بنية إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذه الحلاب وهذا العبد، الحلاب ما يحب فيه، يقول لها أنا أخذت من الأموال، وكان هذا حقه، حق الحاكم أو الأمير أن يأخذ من بيت المال ما يقوم بحاجته، فهو يقول هذه العباءة التي علي وهذا الحلاب الذي يحلب فيه وهذا العبد أخذته من بيت المال فأسرعي به إلى ابن الخطاب، يعني الخليفة بعده، انظر إلى الورع.. وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد، يعني أبو بكر الصديق يتمنى أن يكون هذه الشجرة التي بعد ذلك تلقى أوراقها للدواب تأكلها أو يصنع بها الحطب وتضرم بها النيران..

وقال قتادة: بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خضرة تأكلني الدواب..

ثم ذكر عن عمر قال: وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى أن بلغ (إن عذاب ربك لواقع) فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه..

وقال عمر لابنه وهو في الموت: ويحك ضع خدي على الأرض، عساه أن يرحمني، يعني عسى الله جل وعلا أن يرحمني، يعني صورة من صورة من صور التواضع، ضع خدي على الأرض، ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي، قالها ثلاثًا، ثم قضى.. الفاروق الذي يفر منه الشيطان ويخاف منه، يخاف من لقاء الله سبحانه وتعالى، يخاف ألا يكون قد قُبل عمله وهو من المبشرين بالجنة..

وقال له ابن عباس: مصّر الله بك الأمصار وفتح بك الفتوح، انتشرت الفتوحات في عهد عمر انتشارًا عظيمًا ومُصّرت الأمصار وأنت تخاف؟! ابن عباس يريد أن يطمئنه، فقال: وددت أني أنجو، يعني منها، لا أجرا ولا وزرا، يعني ابن الخطاب يقول وددت أخرج بدون شيء لا أجر ولا وزر، حتى ينجو..

وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تُبل لحيته وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير، لخوفه، يقول لو أنا بين الجنة والنار لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أسمع إلى أين مصيري..

وهذا علي بن أبي طالب وبكاؤه وخوفه وكان يشتد خوفه من الاثنتين: من طول الأمل واتباع الهوى، قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة، طول الأمر، تكلم واحد عن طول الأمل فيقول.. ينتظرني الكثير عندما أتمتع بشبابي ثم أصل للخمسين أو الستين سأتوب بعد ذلك، ما أدراك أنك ستعيش إلى الخمسين أو الستين..

كم من صحيح مات من غير علة  

وكم من عليل عاش حينًا من الدهر

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم

وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

كل يوم نسمع مات فقيد، مات فقيد شباب فارسكور، شاب، فطول الأمل مشكلة كبيرة، طول الأمل ينسي العمل وينسي الآخرة..

قال: أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ثم قال: ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة ولكل واحدٍ منها بنون، هناك أبناء للدنيا وهناك أبناء للآخرة، أبناء الدنيا الذين يركضون خلفها ليل نهار، تقول له تعال صل يقول لك يا أخي العمل عبادة خلّني أعمل، يقول: كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل..

..

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..