أهمية التوبة

الزهد و الرقائق


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

حديثنا عن التوبة والاستغفار:

التوبة عبادة عظيمة لا يعرف أهميتها كثير من الناس، سنقف معها وقفات يسيرة..

هناك كتب ألفت في التوبة منها رسالة أو كتاب لابن أبي الدنيا الحافظ الكبير أبو بكر، وأيضًا كتاب لابن عساكر صاحب تاريخ دمشق، وشيخ الإسلام له كتابات في التوبة متفرقة منها في جامع الرسائل رسالة كاملة في هذا المبحث، نقلنا منها ما سنذكره الآن، وكتبت فيها أيضًا كتابات معاصرة للمعاصرين، نظرًا لأهميتها..

شيخ الإسلام يقول: وهي نوعان: توبة واجبة وتوبة مستحبة، هناك توبة واجبة، قد يستغرب بعض الناس، هناك توبة واجبة، وتوبة مستحبة، التوبة الواجبة تكون من ترك المأمور أو فعل المحظور، من يترك الواجبات أو شيئًا من الواجبات يجب عليه أن يتوب من ترك الواجبات، هذه توبة واجبة، من يفعل المحظورات يجب عليه أن يتوب من فعل السيئات، هذه توبة واجبة..

ومستحبة، ما هي التوبة المستحبة؟ يقول: التوبة المستحبة من ترك المستحبات وفعل المكروهات، ترك المستحبات، بعض الناس يعرف أن هذا الأمر سنة أو مستحب ويصمم على تركه، أو فعل المكروهات، يسألك يقول لك هذا الأمر مكروه أم حرام، تقول له مكروه ؛ يقول إذًا لا عليك طالما أنه ليس بحرام، ويستمر على ذلك، هذا يستحب له أن يتوب من ذلك، لأنه يدخل في عموم حديث "من رغب عن سنتي فليس مني" والإمام أحمد نص على أن من استمر على ترك الوتر، صلاة الوتر يتركها بصفة مستمرة أنه لا تقبل شهادته..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن اقتصر على التوبة الأولى، التي هي التوبة الواجبة، وهي التوبة من ترك المأمور وفعل المحظور، من اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، لأنه لم يأت بالمستحب، ومن تاب التوبتين، تاب التوبة الواجبة والتوبة المستحبة، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، يعني أتى بالنوافل بعد الفرائض، أتى بالمستحبات بعد الواجبات وترك المكروهات بعد تركه للمحرمات، هذا كان من المقربين..

ومن لم يأت بالأولى، بالواجبة، وطبعًا بلا شك لم يأت بالثانية، لأنه إذا ترك التوبة الواجبة لم يأت بالمستحبة، يقول: ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين، من لم يأت بالأولى التي هي التوبة من ترك الواجب وفعل المحظور فهو أحد شخصين: يدخل في الجميع أنه ظالم إما كافر وإما فاسق، هذا كلام شيخ الإسلام في رسالة التوبة الموجودة في جامع الرسائل..

شيخ الإسلام يقول عن التوبة في كلام جميل أيضًا في جامع الرسائل تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى: التوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه، قلنا التوبة منها واجب ومنها مستحب، فلا بد أن نعرف هذه التوبة ما هي وكيف نتوب، وهل التوبة هذه خاصة بالعصاة فقط أم التوبة للجميع (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) جميعًا، وسيأتي من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم يتوب ويستغفر الله تعالى في اليوم..

يقول شيخ الإسلام: والتوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه، فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا مما يفعله العبد من القبائح، وهذا موجود بين الناس، إذا قلت لشخص يا أخي تب إلى الله، يقولك: أتوب إلى الله؟! هل تراني جالسًا في خمارة أو أشرب الحشيش أو المخدرات؟! يقول: كما يظن كثير من الجهال لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم..

يقول: بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها، انتبه الآن لهذه الكلمة، اكتبها عندك: بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، انظر الآن لهذا الكلام القيم، التوبة من ترك الحسنات المأمور بها، كم من حسنة نحن أمرنا بها تركناها ولم نعبأ بها واستقللنا بأهميتها وفائدتها، وضيعنا حسنات كثيرة..

ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما سمع حديث الصلاة على الجنازة وما فيها من الأجر قيراطان قال: لقد ضيعنا قراريط كثيرة، إذا كان ابن عمر يقول هذا وهو الذي كان لا يدع مكانًا صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا نزل يصلي فيه ويقول ضيعنا قراريط كثيرة فكم نحن ضيعنا من الحسنات التي أمرنا بها..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأكثر الخلق يتركون كثيرًا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها، أقوال القلوب: الإيمان، كما فصلنا في ذلك، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالبعث، هذا قول القلب واعتقاده، وأعمالها، أعمال القلوب كالخشية والرغبة والرهبة والرجاء والخوف والتوكل والإنابة والتوبة، إلى غير ذلك، وأقوال البدن وأعماله، أقوال البدن كما يكون  من اللسان، ما يكون من اللسان، قول اللسان، كلمة التوحيد، وأيضًا ما يقوم به من الذكر والتلاوة ونحو ذلك، وأيضًا أعمال البدن وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد والحج، إلى غير ذلك..

يقول: وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به، إما لا يعلم أن هذا مما أمر به، يعني جهلاً منه، أو يعلمون الحق ولا يتبعونه، يسمع ويعلم لكنه لم يوفق للتوبة من ترك تلك الحسنات..

فيقول شيخ الإسلام: فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع، مثل من؟ مثل النصارى، النصارى ضالون لأنهم يعملون بدون علم، يعبدون الله جل وعلا على غير هدى..

وإما مغضوبًا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته، يعني كاليهود الذي عرفوا الحق وحادوا عنه..

في موضوع التوبة ننتقل إلى مجموع الفتاوى (11/253) مجلد السلوك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، انظر كلمة دائمًا، أنا ذكرت هذا المبحث بهذه الطريقة لأنه لم يتيسر لنا قبل ذلك مناسبة للوقوف عنده، ونظرًا لأهميته الشديدة، التوبة، عمل أو عبادة من عبادات القلوب وهي عبادة منها الواجب ومنها المستحب..

يقول شيخ الإسلام: والعبد مأمور، كلمة مأمور الآن عرفتم أنه إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، دائمًا عندما تأتيك كلمة مأمور يدخل فيها الأمر الواجب والأمر المستحب..

والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، قال تعالى (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليهم وسلم قال: "أيها الناس توبوا إلى ربكم" كان يخاطب من؟ "أيها الناس توبوا إلى ربكم" هل يخطاب العصاة والزناة وهل يخاطب من هم على المقاهي أو الخمارات، لا، يخاطب كبار الصحابة، الأبرار الأتقياء، منهم الصديقون والصالحون ومنهم الملهمون ونحو ذلك "أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" من الذي يصنع هذا الآن؟ يستغفر الله ويتوب إلى الله جل وعلا أكثر من سبعين مرة، ثم بين ذلك، أكثر من سبعين، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنه ليغان على قلبي" يعني يران على قلبي، إذا كان هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يُران على قلبه أو يغطى على قلبه فما بالك بمن دونه ممن ليسو من الأنبياء ولا الصديقين ولا غير ذلك، ممن دونه بكثير بكثير، فنحن جميعًا أحوج إلى التوبة، كلنا في حاجة إليها "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة"..

وفي السنن عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" مئة مرة أو قال أكثر من مئة مرة "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" احفظ هذا الدعاء وهذا الاستغفار لتذكره مع ما تذكر في التوبة "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" ففيه التوبة والاستغفار وفيه ختم هذا الدعاء باسمين من أسماء الله جل وعلا يتعلقان أو فيهما مناسبة لهذا الدعاء، كما هو الأدب، يا رزاق ارزقني، يا رحيم ارحمني، يا تواب تب علي إنك أنت التواب الرحيم، وهكذا..

ثم يقول: وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار، هذه نقطة أيضًا مهمة جدًّا تنتبه لها، وهي من النكات الجميلة، أمر الله جل وعلا عباده أن يختموا الأعمال الصالحة بالاستغفار، كيف ذلك؟ تعمل عملاً صالحًا وتستغفر، الناس تفهم أنك تستغفر إذا أذنت ذنبًا، تستغفر إذا فعلت شيئًا محرمًا لكن تعمل العمل الصالح وتستغفر، مثل ماذا؟ إذا انتهيت من الصلاة، إذا انتهيت من الصلاة علمنا أن نقول بعد الانتهاء من الصلاة: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، يقول الشيخ: وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحة بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثًا ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام" تستغفر إذا خرجت من الصلاة، لما قد يحصل في هذه الصلاة من النقص والتقصير والغفلة، فقد يسهو الإنسان وقد يسرح الإنسان، أو العكس، قد يحصل على الإنسان نوع من العجب من دقته في صلاته وإتقانه في صلاته واطمئنانه ونحو ذلك، فأمرت بالاستغفار لهذا ولغيره..

ثم قال: وقد قال تعالى (والمستغفرين بالأسحار) فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار، سبحان الله، شيء عجيب، أنت طيلة الليل قائم، طيلة الليل في قيام، تصلي، وتقرأ، وتدعو، وتذكر، ثم إذا انتهيت تستغفر..

ذكرنا من قبل وخرجنا قول الملائكة أنهم ما منهم إلا قائم دائمًا أو راكع دائمًا أو ساجد دائمًا، وجاء في بعض الآثار أنهم يقولون: "سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" إذا كان هؤلاء الملائكة لا يفترون ولا يملون من عبادة الله جل وعلا ويقولون هذا، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، فكيف بالمقصر وكيف بالمقصرين..

فأنت مهما قمت الليل ومهما دعوت ومهما قرأت فأنت ما عبدت الله جل وعلا حق عبادته وما ينبغي له سبحانه وتعالى..

يقول: وكذلك ختم سورة المزمل، وهي سورة قيام الليل، ختمها بقوله، ختم سورة المزمل بقوله (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلًا) ثم في آخر السورة أيضًا (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) إلى آخر الآيات، وفي آخر السورة (واستغفروا الله) بعد كل هذا العمل وكل هذا القيام وكل هذه العبادة استغفر الله جل وعلا (إن الله غفور رحيم)..

وأيضًا في الحج يقول: وكذلك قال في الحج، الحسنة العظيمة التي إذا وفق الإنسان فيها لحج مبرور رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال تعالى (فإذا أفضتم من عرفات) نزلتم من عرفات وانتهيتم من عرفات (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) الذي هو مزدلفة، المشعر الحرام الذي هو جمع أو مزدلفة (واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) من المزدلفة لأن المشركين كان منهم من يقف عند جمع ولا يفيض إلى عرفة ويقول نحن الحمس لا نخرج من الحرم، لأن عرفة ليست من الحرم وإنما الحرم إلى مزدلفة.. قال: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) مع أن الحج أعماله عظيمة ويوم عرفة يوم ترجى في التوبة والمغفرة، ينزل الناس بعد ذلك من عرفة إلى مزدلفة ويقفون بالمشعر الحرام في الدعاء والذكر والابتهال والاستغفار، إلى الإسفار، قبل أن تطلع الشمس يفيضون إلى منى ليرموا الجمرة الكبرى في يوم العيد، ومع ذلك قال (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)..

بل أنزل الله سبحانه وتعالى في أول الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته قال (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا) وهذه مسألة مهمة أن التوفيق للتوبة هو من الله جل وعلا والذي يمنحك التوبة هو الله جل وعلا، والأمر بيده سبحانه وتعالى (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) يقول: وهي آخر ما نزل من القرآن..

وقد قيل إن آخر سورة نزلت قوله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار، يعني يختم عمله كله تبليغ الرسالة والدعوة إلى الله جل وعلا وهذه المهمة العظيمة التي قام بها أمره أن يختم كل هذه الحياة بالتوبة والاستغفار، لذلك كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكيف تأول هذه الآيات؟ قال كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، هكذا فهم هذه السورة التي نزلت عليه والأمر الذي أمر به، في آخر حياته..

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول، عندما قلت عنه لتنتبه ماذا كان يقول "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت لا إله إلا أنت" إذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي يدعو بها ويدعو الله جل وعلا أن يغفر له خطأه وجهله وإسرافه وهزله وجده وخطأه وعمده فكيف نحن نفعل وماذا نفعل نحن، أقول هذا حتى لا نبرئ أنفسنا..

وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق، يعني انظر إلى استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية، بعد النبوة والرسالة ذكر الصديقين، الصديقية، درجة الصديقية، وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟ وهذا من حرص الصديق، من حرص أبي بكر الصديق على تعلم العلم وعلى العمل، وإلا فلا شك أنه عنده العلم الكثير الغزير، لكن مع ذلك يقول: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" إذا كان الصديق يقول هذا كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا" فكيف بالظالمين حقيقة أمثالنا..

وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، وهذا الدعاء في تصحيحه كلام، قال: "قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشِرْكه –أو: وشَرَكِه- وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره على مسلم" الحديث..

ثم يختم شيخ الإسلام هذا الكلام بقوله: فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله، لا يصح أن يوجد أحد يقول أنا أستغني عن التوبة، أنا عملي تام مئة في المئة، لا أحتاج إلى التوبة، ليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا، شيخ الإسلام ذكرها في أول الكلام وفي آخر الكلام، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا، يعني لا تذهب اليوم تتوب مئة مرة وانتهيت، أو تقول هذا الأسبوع، لا، أنت محتاج إلى تكرار التوبة، قال الله تعالى (وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً. ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورًا رحيمًا)..

يقول شيخ الإسلام في ختام هذا المبحث: فالإنسان ظالم جاهل، الإنسان الأصل فيه الظلم والجهل، يقول: فالإنسان ظالم جاهل، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، لا بد لهم من التوبة، وقد أخبر الله في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم، أخبر الله في كتابه بأن عباده الصالحين هم الذين يتوبون والله جل وعلا يتوب عليهم..

هذا مدخل مهم جدًّا للسبب الأول من أسباب محق الذنب أو الممحصات العشر. السبب الثاني من الأسباب التي تمنع لحوق الوعيد بالشخص، الممحصات، وهو الاستغفار، والاستغفار كما تعلمون كلمة أولها حروف الطلب، ألف وسين وتاء، استدعاء، استغفار، استتابة، ونحو ذلك..

وقيل أنها مأخوذة من المغفرة، لكن القول الذي يقول بأنها مأخوذة من المغفر الذي يحمي الرأس فيه مناقشة، إما أن يعمم هذا القول ويصحح لأن المغفر يقي الرأس، فهل نقول يقي الرأس فقط أم من الممكن أن نمشي هذا الاشتقاق ونقول أيضًا المغفر يقي الرأس ويمنع عنها الأذى ويقابل الأذى بالصد ونحو ذلك.. لماذا نقول هذا الكلام؟ لأنه ليس مقصودًا في الاستغفار مجرد الستر فقط، ليس المقصود في الاستغفار مجرد الستر على الشخص، بل الاستغفار فيه أمور، عندما تقول أستغفر الله فيتضمن ذلك عدة أمور:

أولاً: محو الذنب، تطلب من الله جل وعلا أن يمحو الذنب عنك، عندما تقول أستغفر الله فأنت تطلب من الله جل وعلا أن يمحو الذنب..

ثانيًا: أن يزيل أثره، إزالة أثر الذنب..

الثالث: وقاية شره، لأن الذنوب لها شرور، الذنوب والمعاصي لها شرور..

قال المؤلف: الاستغفار، قال تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) هذا الكلام نقله من ابن القيم في المدارج (1/232) قال ابن القيم: ولا بد في لفظ المغفرة من الوقاية، هذا أول شيء، قال ابن القيم: فلا بد في لفظ المغفرة من الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب، الاستغفار هو الذي يمنع العذاب، هذه كلمة مهمة جدًّا، في قوله تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) قال: فإن الله لا يعذب مستغفرًا، انظر لكرم الله جل وعلا ومنته، إن الله لا يعذب مستغفرًا، فالعبد لا بد أم يلزم الاستغفار ملازمةً دائمة..

قال: وأما من أصر على الذنب، شخص أصر على الذنب، وطلب من الله مغفرته، فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب، المصر على الذنب ويطلب من الله أن يغفر له الذنب هذا ليس باستغفار مطلق، فقد يعذب، وقد يحجب عنه العذاب لأسباب..

قال ابن القيم: فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار، هذا الكلام الآن الموجود ، نقله في شرح الطحاوية، قال ابن القيم: فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، فهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ما معنى هذا الكلام؟ إذا اجتمعا في مكان واحد (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) كان لكل واحدةٍ منهما معنى، الاستغفار طلب الوقاية من الذنب، مما مضى، وطلب المفارقة، طلب الوقاية من أثره والمفارقة من الذنب.. التوبة طلب الرجوع إلى الطريق المستقيم ووقاية الذنوب في المستقبل، كما سيأتينا الآن..

أما إذا اجتمعا في مكان واحد، عندما تقول: يا فلان استغفر الله أو يا فلان تب إلى الله فعندئذ تدخل التوبة في الاستغفار ويدخل الاستغفار في التوبة..

يقول ابن القيم: فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، يعني عندما يأتيان معًا، فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، شر الذنوب، الذنوب شر وبلاء..

وبعض أهل العلم يقول أن الذنب سمي ذنبًا مأخوذة من الذنَب، ذنَب الحيوان، مؤخر الحيوان، لما يكون في هذا الذنب من الأثر الذي يجر بويلاته على المذنب، نسأل الله السلامة والعافية..

عند اقترانهما فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله..

يقول ابن القيم: فهاهنا ذنبان: ذنب قد مضى فالاستغفار منه طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على ألا يفعله، والرجوع إلى الله يتناول النوعين، الرجوع بالتوبة، رجوع إليه ليقيه شر ما مضى من الذنوب، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله..

ثم يضرب مثله يقول: أيضًا فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقًا، المذنب، الشخص الذي يسرف على نفسه في المعاصي، كمن ركب طريقًا، مشى في طريق تؤديه إلى هلاكه، واحد مشى في طريق لو استمر في هذا الطريق سيهلك، ولا توصله إلى المقصود، فهو مأمور أن يوليها ظهره، يعني يجب أن يستدير، يولي هذه الطريق المهلكة ظهره، ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، هكذا المذنب، لا بد أن يترك طريق المعاصي والذنوب ويوليها ظهره ويرجع مرة أخرى إلى طريق السلامة والإنابة لينجو فيها، لأنه لو استمر في هذا الطريق الذي هو طريق الإسراف على النفس والمعصية ونحو ذلك فإن فيها كما يقول: هلاكه، والتي توصله إلى مقصوده وفيها فلاحه، يعني التوبة..

يقول: فهاهنا أمران لا بد منهما: مفارقة شيء، والرجوع إلى غيره، يعني ابن القيم يفصل تفصيلاً دقيقًا جدًّا يشخص الداء ويصف الدواء بدقة، وهذا من حسن النصح للأمة لخطورة الأمر، فهاهنا أمران لا بد منهما، مفارقة شيء والرجوع إلى غيره، فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين، إذا جاءت التوبة لوحدها دخل فيها الاستغفار وإذا جاء الاستغفار لوحده دخل فيه التوبة، مثل الإسلام والإيمان إذا جاء الإسلام وحده دخل فيه الإيمان وإذا جاء الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، إذا اجتمعا دل الإسلام على الأعمال الظاهرة ودل الإيمان على الاقوال والاعمال الباطنة..

ولهذا جاء والله أعلم الأمر بهما مرتبًا في قوله (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل..

ثم يختم هذا ويقول: وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، و أهل العلم يشبهون الاستغفار بالمنظفات التي تنظف الثوب كالصابون ونحو ذلك، إذا أردت أن تتنظف من أدران الذنوب والمعاصي فعليك بالاستغفار، كما أنك تنظف ثوبك بالصابون والأشنان والمنظفات، إذا توسخ بالأوساخ والأدران المعروفة، فالاستغفار بهذه الحيثية ينظف الإنسان ويطهره من الذنوب والمعاصي ومن آثارها..

يقول: فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، كالبر والتقوى، والإثم والعدوان، والفسوق والعصيان، ونحو ذلك..

قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى، قال: فإذا ذكر وحده دخل معه التوبة كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، ثم يأتي النقل من المدارج الذي ذكرته لكم، فالتوبة تتضمن الاستغفار والاستغفار يتضمن التوبة،كل واحد منهم يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.. انتهى من المدارج..

 هذا المبحث مهم وكلنا في حاجة إليه، كلنا في حاجة إلى الاستغفار كما كلنا في حاجة إلى التوبة..

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..